الحياة في كندا

تقرير: خط الفقر الخفي في كندا.. واقع يعيشه كثيرون دون أن يُصنّفوا فقراء

عندما يفكر الناس في الفقر، غالبا ما يتخيلون صورا قاسية: لا طعام، لا منزل، لا وظيفة، ولكن في كندا، تعريف الفقر أكثر تعقيدا، وأقرب بكثير إلى واقع المواطن العادي مما يظن كثيرون، فخط الفقر الخفي لا يصرخ يأسا، بل يظهر بهدوء في غياب المدخرات، أو تأخر دفع الفواتير، أو القلق من العيش من راتب إلى راتب.

ارتفاع تكاليف السكن

شكّل السكن العامل الأكثر تأثيرا في دفع الأسر نحو خط الفقر، فقد تجاوز متوسط الإيجار في مدن كبرى مثل تورنتو وفانكوفر 2500 دولار لشقة بغرفة واحدة، وأصبح امتلاك منزل يتطلب دخلا أعلى بكثير من المتوسط الوطني، وحتى في المدن الصغيرة، ترتفع الإيجارات بنسبة مزدوجة سنويا، وإنفاق أكثر من 30% من الدخل على السكن يُعتبر “فقر المأوى”، لكن كثيرا من الأسر تنفق 40% أو حتى 50%، وهذا يترك هامشا ضئيلا للادخار أو الطوارئ أو حتى الطعام.

تضخم أسعار الغذاء يضغط على الرواتب

ارتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل يفوق التضخم العام، وأصبحت المنتجات الطازجة والألبان واللحوم أكثر تكلفة، ما دفع الأسر لاختيار خيارات أرخص وأقل جودة غذائية، وتنفق الأسرة الكندية المكونة من أربعة أفراد نحو 16,000 دولار سنويا على الطعام، وقد لا يبدو ذلك فقرا للوهلة الأولى، لكن عندما يستحوذ الغذاء على حصة متزايدة من الدخل، يُقصى ما تبقى من ضروريات، وحتى أصحاب الدخل المتوسط باتوا يقصّون القسائم أو يتخطّون وجبات لتدبير الميزانية.

جمود الأجور مقابل ارتفاع النفقات

لم تواكب الأجور معدل التضخم، فبينما ترتفع الرواتب ببطء، تتسارع تكاليف السكن والخدمات والضروريات، ومن يحصل على 50,000 دولار اليوم يملك قدرة شرائية أقل بكثير مما كان عليه قبل عشر سنوات.

الديون كوسيلة يومية للبقاء

تُعد ديون الأسر في كندا من الأعلى عالميا، إذ يدين متوسط الأسرة بـ 1.80 دولار مقابل كل دولار تكسبه، وأصبحت بطاقات الائتمان والقروض القصيرة الأجل وخطوط الائتمان وسائل للبقاء، لا للرفاهية.

تكاليف الرعاية الصحية خارج التغطية

يُنظر إلى الرعاية الصحية الشاملة كشبكة أمان كندية، لكن كثيرا من النفقات تقع خارج النظام – كالأسنان، والنظر، والأدوية، والدعم النفسي، وتغطي بعض خطط العمل جزءا منها، لكن العاملين المستقلين أو بعقود غالبا ما يُحرمون منها، ويمكن أن تُحوّل حالة طبية طارئة أو علاج منتظم شخصا من مستقر إلى متعثر.

رعاية الأطفال كعبء مالي

تُعد رعاية الأطفال من أكبر النفقات للأسر، ورغم وعود الحكومة برعاية بـ 10 دولارات يوميا، إلا أن الوصول إليها محدود بسبب قوائم الانتظار والتفاوت بين المقاطعات، وفي الواقع، يدفع الأهل من 1,000 إلى 2,000 دولار شهريا لكل طفل، وهذا يُدخل كثيرا من الأسر في ضائقة مالية.

تكاليف النقل تلتهم الميزانية

أصبحت السيارات أكثر تكلفة من حيث الشراء والتأمين والوقود والصيانة، أما النقل العام، فرغم أنه أرخص، إلا أنه غير متاح دائما في المناطق الريفية أو الضواحي، وبالنسبة لكثيرين، امتلاك سيارة ليس رفاهية بل ضرورة للوصول إلى العمل والخدمات، ويبلغ متوسط التأمين أكثر من 1,500 دولار سنويا في مقاطعات مثل أونتاريو، ومع ارتفاع أسعار الوقود، يُستنزف الدخل بسرعة.

غياب الادخار وانعدام الأمان التقاعدي

يظهر خط الفقر الخفي في غياب المدخرات، فنحو نصف الكنديين يعيشون من راتب إلى راتب، دون صندوق طوارئ، وغالبا ما تُؤجل المساهمات التقاعدية، ما يُعرّض الناس للخطر في سنواتهم اللاحقة.

ضغط فواتير الطاقة والخدمات

تُعد التدفئة والكهرباء والإنترنت ضرورات لا رفاهيات، لكن ارتفاع تكاليفها يُشكّل ضغطا كبيرا، وفي المقاطعات ذات الشتاء القاسي، قد تصل فواتير التدفئة إلى مئات الدولارات شهريا، أما الإنترنت، فأصبح ضروريا للعمل والتعليم، وغالبا ما تلتهم فواتير الخدمات الشهرية جزءا كبيرا من الميزانية، ويُعرّف “فقر الطاقة” بأنه إنفاق نسبة غير متناسبة من الدخل على الخدمات الأساسية، وهو أمر متزايد.

العمل غير المستقر والوظائف المؤقتة

لم يعد العمل المستقر بدوام كامل مع مزايا هو القاعدة، إذ تُهيمن الوظائف المؤقتة والعقود والعمل الحر على قطاعات مثل البيع بالتجزئة والمطاعم والتوصيل، وقد توفر هذه الوظائف دخلا، لكنها تفتقر إلى الأمان والمزايا والتقاعد، وتجعل الساعات غير المنتظمة والأجور المتقلبة من التخطيط المالي أمرا صعبا.

ديون التعليم تمتد لسنوات

تُثقل ديون التعليم كاهل الشباب لسنوات بعد التخرج، ويبلغ متوسط الدين نحو 28,000 دولار، وقد يستمر السداد لعقود، ومع ارتفاع الإيجارات وتكاليف المعيشة، يؤجل كثيرون شراء منزل أو تأسيس أسرة أو الادخار للتقاعد، وتُقلّل مدفوعات الدين من الدخل المتاح وتُقيّد فرص التقدم، ووجود دخل ثابت لا يُلغي العبء المالي الناتج عن القروض الدراسية، وبالنسبة لكثيرين، ساعدهم التعليم في الحصول على وظيفة، لكن تكلفة الدراسة تُبقيهم قريبين من خط الفقر حتى في الثلاثينات والأربعينات من العمر.

تفاوت تكاليف المعيشة حسب المناطق

لا يظهر خط الفقر الخفي بنفس الشكل في كل أنحاء البلاد، ففي مدن مثل فانكوفر وتورنتو، يتجاوز الدخل المطلوب لتغطية النفقات الأساسية المتوسط الوطني بكثير، أما المدن الصغيرة، فرغم أنها تبدو أكثر توفيرا، إلا أنها تفتقر إلى فرص العمل، ما يدفع السكان إلى وظائف منخفضة الأجر أو موسمية، وتواجه المجتمعات الشمالية ضغوطا فريدة، حيث تُباع المواد الغذائية والبضائع بأسعار أعلى بمرتين أو ثلاث بسبب تكاليف النقل، وهذا التفاوت الإقليمي يعني أن الفقر لا يتحدد فقط بالدخل، بل أيضا بالموقع الجغرافي. فمكان الإقامة قد يحدد مدى قرب الفرد من الهشاشة المالية.

الحواجز المالية التي تواجه المهاجرين

يواجه القادمون الجدد إلى كندا تحديات مالية فريدة، ويصل كثيرون منهم وهم يحملون مؤهلات مهنية عالية، لكنهم يصطدمون بعدم الاعتراف بشهاداتهم الأجنبية، ما يدفعهم إلى وظائف منخفضة الأجر، كما يفتقرون غالبا إلى سجل ائتماني مثبت، ما يصعّب عليهم الحصول على سكن مناسب أو قروض بأسعار معقولة، ومع تكاليف الاستقرار الجديدة والالتزامات تجاه أسرهم في الخارج، يجد كثير من المهاجرين أنفسهم على حافة الفقر رغم عملهم بدوام كامل.

المجتمعات الأصلية والفجوات المنهجية

تعاني الشعوب الأصلية في كندا من الفقر بشكل غير متناسب بسبب التمييز المنهجي، وضعف الوصول إلى الموارد، وقصور الخدمات العامة، وتواجه العديد من المجتمعات الأصلية نقصا في السكن المناسب، وغيابا لمياه الشرب النظيفة، ومحدودية في خدمات الرعاية الصحية، وغالبا ما تكون فرص العمل نادرة، ما يضطر السكان للاعتماد على وظائف غير مستقرة أو مساعدات حكومية، ولا يرتبط خط الفقر الخفي هنا فقط بالمال، بل بجذور تاريخية من التهميش والإهمال المستمر.

الصحة النفسية والضغوط المالية

تتغذّى الصحة النفسية والهشاشة المالية من بعضهما البعض، إذ يسبب القلق من الفواتير والديون وعدم الأمان الوظيفي أمراضا نفسية مرتبطة بالتوتر، ما يؤثر بدوره على القدرة على العمل أو الحفاظ على دخل ثابت، وتُضاف خدمات الصحة النفسية، التي لا تغطيها الرعاية الصحية العامة بشكل كامل، إلى الأعباء المالية، ويؤدي التغيب عن العمل بسبب التوتر أو الحالات غير المعالجة إلى انخفاض الدخل وزيادة عدم الاستقرار، ولا يُقاس الفقر الخفي دائما بالأرقام، بل بكيفية تآكل جودة الحياة بصمت، فعدم القدرة على تحمّل تكلفة العلاج أو الأدوية يُظهر كيف يمكن لمن هم فوق خط الفقر الرسمي أن يعيشوا في ظروف مالية هشة.

تلاشي الطبقة الوسطى

يُعد تآكل الأمان الاقتصادي للطبقة الوسطى من أوضح المؤشرات على مدى اقتراب كثيرين من الفقر، ففي السابق، كانت الأسر ذات الدخل المتوسط قادرة على امتلاك منازل وسيارات، والذهاب في إجازات، وتمويل التعليم براحة، أما اليوم، فهذه الدخول بالكاد تكفي لتغطية النفقات الأساسية، وأصبح الفرق بين “الطبقة العاملة الفقيرة” والطبقة الوسطى غير واضح، مع ارتفاع التكاليف التي تحدّ من الخيارات والفرص، وعندما تفقد الطبقة الوسطى قدرتها على الادخار أو الاستثمار أو التخطيط بثقة، فهذا يعني أن خط الفقر الخفي يتسلل إلى الأعلى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى